إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 6 أغسطس 2011

ما هي حكاية سقف الدَّين الأمريكي ؟

ما حكاية سقف الدَّين، ولماذا أصبح سقف الدَّين مشكلة في هذا التوقيت بالذات
ولماذا أصبح رفع سقف الدَّين من عدمه مصدر قلق للعالم أجمع، مع أنه من المفترض أن يكون شأنا داخليا للولايات المتحدة؟..

في هذا المقال نحاول مناقشة هذه التساؤلات. ينص الدستور الأمريكي على أن الكونجرس هو صاحب الحق في تحديد قيمة الدَّين العام للولايات المتحدة، وقبل عام 1917 كان لا بد من موافقة الكونجرس على كل دورة اقتراض تقوم بها الخزانة الأمريكية، إلا أنه مع اشتراك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى ورغبة في إعطاء قدر أكبر من المرونة للخزانة في عملية الاقتراض دون الرجوع إلى الكونجرس في كل مرة، فقد تم في عام 1917 إدخال مفهوم سقف الدَّين Debt Ceiling،
ويقصد بسقف الدَّين تحديد حد أقصى (سقف) لقيمة الدَّين العام الأمريكي، وطالما أن الدَّين العام الأمريكي لم يصل إلى هذا السقف فإن من حق الخزانة الأمريكية الاستمرار في عملية الاقتراض دون الرجوع إلى الكونجرس. بهذا الشكل تتوافر الحرية للخزانة الأمريكية في إطفاء وإصدار السندات طالما أنها لم تتجاوز السقف المحدد للدَّين، وقد مكَّن قانون رفع سقف الدَّين الولايات المتحدة بالفعل من دخول الحرب العالمية الثانية الأولى، من خلال تمكين الخزانة الأمريكية من إصدار سندات طويلة الأجل (سند الحرية)، إضافة إلى سندات قصيرة الأجل، ولكن ما الذي يحدد الحاجة إلى رفع سقف الدَّين من عدمه؟ لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في حالة الميزانية العامة للدولة، فكلما كانت الميزانية تحقق فوائض أو عجزا محدودا فإن الحاجة إلى رفع سقف الدَّين تقل، أما إذا كانت الميزانية تحقق عجزا مرتفعا ومستمرا، فإن ذلك يرفع الحاجة إلى رفع سقف الدَّين تزداد بشكل مستمر مثلما حدث في العقد الماضي من هذا القرن، وعندما يصل الدَّين إلى السقف المحدد قانونا، فإن قدرة الخزانة على توفير الاحتياجات المالية للدولة تتعطل، كذلك إذا نص تشريع رفع سقف الدَّين على منع الخزانة من إصدار ديون جديدة للوفاء بالاحتياجات المالية للحكومة في الأجل القصير، أو لتمويل العجز السنوي فإن الحكومة لن تكون قادرة على الوفاء بالتزاماتها ودفع فواتيرها، وعندما يقترب الدَّين العام من سقفه فإن الخزانة لا بد وأن تتخذ إجراءات غير اعتيادية لاستيفاء الاحتياجات المالية الفيدرالية، غير أنه وحتى اليوم، لحسن الحظ، لم يتسبب رفع سقف الدَّين في توقف الحكومة الأمريكية عن الوفاء بالتزاماتها، غير أن مسألة رفع سقف الدَّين ذاتها قد تسبب من وقت إلى آخر بعض حالات عدم التأكد حول عمليات الخزانة، خصوصا وأن الدَّين العام الأمريكي لم يعد أمريكيا، وإنما أصبح بصورة متزايدة ملكا للأجانب، وقد أشرنا سابقا إلى أن نحو ثلث الدَّين العام الأمريكي مملوك للأجانب من خارج الولايات المتحدة؛ لذلك يتصاعد القلق العالمي مع كل عملية رفع لسقف الدَّين خشية توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها إذا ما فشلت محادثات رفع سقف الدَّين. ولكن لماذا الإصرار على إدخال سقف محدد للدَّين؟ الإجابة عن هذا السؤال تكمن في الحرص على تمكين الكونجرس الأمريكي من استخدام صلاحياته الدستورية في السيطرة على الإنفاق العام، وكذلك اتخاذ التدابير المناسبة للسيطرة على معدلات نمو الدَّين، حيث يلتزم الكونجرس والرئيس الأمريكي باتخاذ الإجراءات المناسبة للسيطرة على نمو الإنفاق العام ومن ثم العجز في الميزانية الأمريكية. منذ أن تم إدخال مفهوم سقف الدَّين في 1917 وحتى 2010، تم رفع سقف الدَّين العام الأمريكي 102 مرة، كما يتضح من الشكل رقم (1) الذي يوضح جميع حالات رفع سقف الدَّين منذ 1919 حتى 2010، ومن ثم يصبح الرفع الذي تم هذا الأسبوع هو الزيادة رقم 103 في سقف الدَّين الأمريكي. فلماذا هذه الضجة التي أثيرت أخيرا حول مسألة رفع سقف الدَّين؟ مرة أخرى الإجابة هي أنها جاءت في وقت حرج للغاية، حيث تتسم استعادة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة بأنها هشة، وقد انتهز غلاة الحزب الجمهوري فرصة سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب وتمسكوا بقضية سقف الدَّين كطوق للنجاة لوضع مرشحهم القادم في البيت الأبيض محل الرئيس الحالي باراك أوباما، وبدا من الواضح أن أعضاء الحزب الجمهوري على استعداد لتعريض الولايات المتحدة لكارثة مالية من أجل تحقيق مطالب أكثر النواب تطرفا في الحزب. كما أنه من الواضح أيضا أن الانتخابات الأمريكية القادمة بين مرشح الجمهوريين والرئيس أوباما ستكون ساخنة جدا وتدور حول قضايا كبيرة، بصفة خاصة حول حجم الحكومة والدَّين العام والأوضاع الاقتصادية الكلية بشكل عام. لقد أعلن الرئيس أوباما يوم الأحد الماضي أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري قد توصلا إلى اتفاق يجنب الولايات المتحدة التوقف عن خدمة ديونها والذي كان محددا له يوم الثلاثاء الثاني من آب (أغسطس)، وأن الاتفاق سيتم التصويت عليه من جانب الكونجرس قريبا جدا. رسميا تمت الموافقة على رفع سقف الدَّين الأمريكي في مجلس النواب قبل ساعات من الموعد النهائي لتوقف الولايات المتحدة عن خدمة الدَّين. منذ البداية، وكما أشرت في مقالين سابقين عن الموضوع تم نشرهما على ''الاقتصادية''، لم يكن لدي أدنى شك في أن خطة رفع سقف الدَّين سيتم إقرارها بأي شكل لتجنيب الولايات المتحدة والعالم الآثار السلبية التي يمكن أن تنجم عن ذلك ولإنقاذ الولايات المتحدة من التوقف عن خدمة الدَّين لأول مرة بسبب الفشل في التوصل إلى اتفاق حول شروط رفع السقف. بمقتضى هذا الاتفاق ستباشر الخزانة الأمريكية في إصدار السندات ليبدأ الدَّين العام الأمريكي في الارتفاع أكثر وأكثر، وأغلب الظن أن التصنيف الائتماني الممتاز للدين الأمريكي لن يتأثر، وسيظل، على الرغم من كل ما يحدث، مصنفا على أنه من أفضل الديون في العالم، حتى وإن تم تخفيض التصنيف فلن يكون عاما، ولن يستمر منخفضا لفترة طويلة. الأمر المثير للاستغراب في سلوك الجمهوريين هو هذا الإصرار العنيد من جانبهم على فرض شروطهم حول خطة رفع سقف الدَّين والتي تمثلت في الخطة التي قدمها بوهنر والتي تقضي بخفض كبير في الإنفاق العام الأمريكي وعدم زيادة الإيرادات العامة من خلال الإصلاح الضريبي، الأمر الذي يعني من الناحية العملية أن أوباما سيضطر إلى دخول الانتخابات المقبلة بمؤشرات سيئة عن الأداء الاقتصادي على المستوى الكلي وبميزانية تعاني عجزا ضخما. ولكن المراقب للأحداث لا يمكن إلا أن يصاب بالدهشة من هذا النفاق السياسي، فمنذ متى يهتم الجمهوريون بعجز الميزانية أو بمستوى الدَّين العام الأمريكي، والذي هو بالفعل تركة ثقيلة ورثها أوباما من الإدارة الأمريكية السابقة للجمهوريين والتي قامت برفع سقف الدَّين سبع مرات بين حزيران (يونيو) 2002 وتشرين الأول (أكتوبر) 2008، الأمر الذي أدى إلى تضاعف حجم الدَّين العام الأمريكي في غضون هذه الفترة القصيرة، كما يتضح من الشكل رقم (2)، الذي يلقي الضوء بصورة أكبر على حالات رفع سقف الدَّين العام الأمريكي خلال حكم الجمهوريين في فترة الرئاسة السابقة وحتى اليوم. والآن ما تفاصيل خطة رفع سقف الدَّين الأمريكي والآثار المتوقعة لهذه الخطة؟ وفقا لموقع البيت الأبيض وكذلك ما نشره مكتب الكونجرس للميزانية اليوم الثلاثاء الثاني من آب (أغسطس)، فإن هناك تفاصيل كثيرة لهذه الخطة، ولكني سأحاول اختصار هذه التفاصيل بقدر الإمكان. وفقا للخطة فإن تشريع رفع سقف الدَّين يقضي بالتالي: - وضع حد أقصى على الإنفاق التقديري Discretionary spending حتى عام 2021 لخفض عجز الميزانية بنحو 917 مليار دولار، وتحقيق التوازن في الخفض بين الإنفاق على الدفاع والإنفاق على جوانب الإنفاق المدني الأخرى غير الدفاع. وسيشمل خفض الإنفاق التقديري 350 مليارا من ميزانية الدفاع على مدى عشر سنوات، وهو أول تخفيض لميزانية الدفاع في الولايات المتحدة منذ التسعينيات، وذلك في ظل مراجعة لأدوار ورسالة وقدرات الولايات المتحدة مع الاستمرار في الالتزام بحماية الأمن القومي الأمريكي. - تشكيل لجنة مشتركة من الحزبين لبحث تخفيض العجز في الميزانية بـ1.5 تريليون دولار إضافية بما في ذلك الإصلاح الضريبي، على أن تتولى اللجنة المشتركة دراسة الإصلاحات الأساسية، مع منح توصيات اللجنة الأولوية في التصويت في مجلس الشيوخ والكونجرس، ومنع البعض من استخدام الحيل الإجرائية لوقف هذه التوصيات. على أن تقدم اللجنة توصياتها بحلول تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل ويتم التصويت على توصيات اللجنة في كانون الأول (ديسمبر) المقبل. - السماح ببعض الإنفاق الإضافي لتعديل مدفوعات الإعانات غير المناسبة، وبصفة خاصة فإن الخفض في الإنفاق على الرعاية الصحية سيوضع عليه حد أقصى وستقتصر على مقدمي الخدمة، وفي حال لم تتمكن اللجنة من تقديم مقترحاتها سيتم خصم 500 مليار دولار من الإنفاق العسكري، إضافة إلى الخصومات التي تمت وكذلك إجراء خفض للبرامج الحرجة مثل البنية التحتية أو التعليم. - تعديل برامج منح الطلبة والقروض التي يحصلون عليها في إطار برنامج Pell Grant. - يتولى المجلسان اقتراح تعديل للدستور الأمريكي بما يضمن توازن الميزانية الأمريكية. - رفع سقف الدَّين مبدئيا بـ400 مليار دولار، على أن يتم رفع سقف الدَّين على مرحلتين لزيادة السقف بما يتراوح بين 2.1 تريليون و2.4 تريليون. - يلتزم الحزبان بالموافقة على التخفيض المتوازن للعجز، وفي حالة فشل التوصل إلى اتفاق، حول هذا الموضوع يتم خفض الإنفاق بصورة قسرية في 2013 بنسبة 50 في المائة بين الإنفاق المحلي والإنفاق على الدفاع، مع حماية الإنفاق على التأمين الاجتماعي والمستفيدين من الرعاية الصحية وبرامج محدودي الدخل من أي خفض في الإنفاق، ولن يتم الخفض الإجباري في الإنفاق قبل 2013 بهدف حماية التعافي الاقتصادي من التراجع مع خفض الإنفاق العام. - في الوقت الذي ستبدأ فيه الإدارة الأمريكية بتخفيض الإنفاق فإن التخفيضات الضريبية التي أقرها الرئيس بوش بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، ستنتهي في 1/1/2013، هذان الأثران سيعملان على خفض العجز في الميزانية، وفي حال فشل التوصل إلى اتفاقية متوازنة في هذا الوقت، فإن الرئيس سيستخدم حقه في الفيتو لضمان خفض إضافي في العجز بتريليون دولار من خلال عدم مد الخفض الضريبي على الفئات مرتفعة الدخل. - وفقا لتقديرات مكتب الكونجرس للميزانية فإن التشريع سيخفض العجز بما لا يقل عن 2.1 تريليون دولار بين 2012 و2021. والآن ما الآثار المتوقعة لإقرار مثل هذه الخطة، في الواقع هناك آثار كثيرة لتشريع رفع سقف الدَّين، ولنبدأ بأهم الآثار الإيجابية والتي يمكن اختصارها في إعادة ثقة المستثمرين والأسواق في أدوات الدَّين العام الأمريكي وتجنب العالم لآثار الصدمة التي كان من الممكن أن تنجم عن توقف الولايات المتحدة عن خدمة دَينها العام، وتجنب خفض تصنيف الائتماني للدين الأمريكي، وبالفعل أعلنت وكالة موديز للتصنيف الائتماني أثناء كتابة هذا المقال أن الدَّين العام الأمريكي سيستمر في الاحتفاظ بتصنيف AAA الممتاز ولن تقوم بتخفيض هذا التصنيف، وإذا لم يتم تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة فإنها ستتجنب رفع معدلات العائد على السندات الأمريكية، وبالتالي خفض تكاليف الاقتراض للولايات المتحدة، وخفض احتمالات دخول الاقتصاد الأمريكي حالة من الكساد العميق. إضافة إلى ذلك فإن من أهم الآثار الايجابية للخطة هو أثرها على الميزانية من خلال الإجراءات العديد المقترحة لخفض العجز، كما سبقت الإشارة. أما أهم الآثار السلبية فتتمثل في أن خفض الإنفاق يأتي في توقيت حرج للغاية، فالانتعاش الاقتصادي يواجه مشكلات والنمو يتراجع والبطالة تراوح مكانها، على الرغم من جهود تحفيز الاقتصاد. بعد التوصل إلى الاتفاق على رفع سقف الدَّين كتب الاقتصادي الأمريكي بول كروجمان مقالا نشر في الـ''نيويورك تايمز'' بعنوان ''الرئيس يستسلم''، اعتبر فيه الاتفاق بمثابة كارثة للرئيس أوباما وحزبه وللاقتصاد الأمريكي ككل. لأن الاقتصاد الأمريكي يعاني حاليا الكساد، وأن أسوأ ما يمكن أن تقوم به الحكومة حاليا للاقتصاد هو تخفيض الإنفاق العام؛ لأن ذلك سيجعل الاقتصاد يغرق في الكساد بصورة أعمق وهو ما يؤثر على الإيرادات المستقبلية للحكومة. من ناحية أخرى، فإن الاتفاق سيخفض الإنفاق بصورة كبيرة دون أن يكون هناك في المقابل زيادات في الإيرادات العامة

_________________

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق